تأملات

سلفادور ألندي، مثال نموذجي خالد.

بتاريخ ولد قبل مائة عام في مدينة فالبرايسو، جنوبي تشيلي، 26 يونيو من عام 1908. وكان أبو من الطبقة الوسطى وهو محامي وكاتب عدل ينتمي للجزب الجذري التشيلي. وعندما ولدتُ أنا كان ألندي قد بلغ الثامن عشر من العمر. وتلقى علومها الثانوية في معهد في نفس المدينة التي ولد فيها.

وهو في الثانوية وأقام صداقة مع مناضل إيطالي فوضوي قديم وضعه في الاتصال مع الأدبيات الماركسية.

تخرج من الثانيوة بدرجة متوفقة. وكان يحب ممارسة الرياضة. ودخل الخدمة العسكرية تطوعا في وحدة (أصحاب درع فيينيا ديل مار) وطلب فيما بعد الانتقال إلى وحدة (أصحاب  رماح تاكنا) وهي معقل في شمالي تشيلي الصحراوي والجاف، تم إرجاع المنطقة فيما بعد لبيرو. وتخرج ألندي كضابط احتياطي الجيش، وهو يملك أفكارا اشتراكية وماركسية. لم يكن آنذاك بشاب ضعيف يفتقد إلى مبادئ. كان يبدو الأمر لو يعرف أنه سوف يدافع يوما وحتى الموت عن المعتقدات التي كانت آخذة بالنمو في تفكيره.

قرر أن يتناول دراسة الطب النبيلة في جامعة تشيلي، وقام بتنظيم مجموعة من الرفاق تعودوا على أن يجتمعوا بانتظام للمطالعة والمجادلة حول الماركسية. في عام 1929 أسس مجموعة سميت بالـ المقدمة. وفي عام 1930 تم انتخابه نائبا لرئيس اتحاد طلبة تيشلي حيث شارك في النضال ضد الدكتاتور كرلوس إبانيس.

في عام 1929 كان قد انفجرت الأزمة الاقتصادية الكبيرة في الولايات المتحدة وأزمة البورصة، ويجري في كوبا النضال ضد دكتاتورية متشادو. وتم اغتيال البطل الثوري ميجا، والطلاب والعمال يتعرضون للقمع، والشيوعيون وعلى رأسهم البطل الثوري/ مرتينيز فيجينا يجريون إضرابا عاما جعله يقول في قصيدته الشعرية المثيرة: "هناك حاجة لشحنة تصفي المكارين وتكمل عمل الثورات" . في حين أن البطل الثوري المناهض للإمريالية (غيتيراس) يحاول إسقاط الدكتاريتورية بالسلاح. وسقط الدكتاتور متشادو الذي لم يعد يحتمل ضغط الأمة، ونشأت ثورة قامت الولايات المتحدة بسحقها بيد حديدية وناعمة في نفس الوقت في بضعة أشهرمما أدى إلى استمرار سيطرتها المطلقة على كوبا لغاية ععام 1959.

في تلك الأثناء كانت السيطرة الأمريكية على تيشيلي مطلقة، وكان يجري قمع العمال التشليين، وتصفية ثقافتهم ونهب ثرواتهم، وقام سلفادو ألندي بنضال لن يسمح له بالابتعاد  عن السلوك الثوري قط.

تخرج كطبيب في عام 1933، وشارك في تأسيس الجزب الاشتراكي التيشلي. في عام 1935 التحق برابطة الأطباء التيشليين. وتم اعتقاله وذهب للسجن لمدة نصف سنة تقريبا، وعمل على إقامة الجبهة الشعبية وتم انتخابه نائبا للسكرتير العام للحزب الاشتراكي في عام 1936.

في عام 1939 تولى رئاسة وزارة الصحة في حكومة الجبهة الشعبية، ونشر كتابا حول الطب الاجتماعي، وأقام المعرض الأول للسكن. وشارك في عام 1941 في الاجتماع السنوي لرابطة أطباء الولايات المتحدة، وفي عام 1942 وصل لرئاسة الجزب الاشتراكي التشيلي. وفي عام 1947 صوّت في مجلس الشيوخ ضد قانون "الدفاع المستمر عن الديمقراطية" المعروف فيما بعد (بالقانون الفظيع) بسبب طابعه القمعي. وفي عام 1949 وصل لرئاسة رابطة الأطباء التشيليين.

في عام 1952 رشحته (جبهة الشعب) لرئاسة الجمهورية وكان قد بلغ الـ 44 سنة من العمر. وخسر في الانتخابات. وقدم في مجلس الشيوخ مشروع قانون لـتأميم النحاس. سافر لإيطاليا وفرنسا والاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين في عام 1954.

بعد أربع سنوات، أي في عام 1958، تم ترشيحه لرئاسة الجمهورية عن جبهة العمل الشعبي التي أقامها الاتحاد الاشتراكي العشبي والجزب الاشتراكي التشيلي والجزب الشيوعي. وخسر الانتخابات أمام المرشح المعتدل خورخي ألساندري.

شارك في عام 1959 في مراسم تنصيب الرئيس رومولو فتانكورت في فنزويلا، الذي كان ما زال يعتبر شخصية ثورية  يسارية.

في نفس هذا العام سافر إلى هافانا وقابل تشي جيفار وقابلني أيضا. وفي هذا العام أيضا ساند إضراب عمال مناجم الفحم في تشيلي الذين امتنعوا عن العمل لمدة زادت على الثلاثة أشهر.

في عام 1961 استنكر لى جانب تشي جيفار إعلان منظمة دول قارة أمريكا اللاتينية  المسمى بالـ التحالف من أجل الازدها الذي تم تبنيه في بلدة الرأس الشرقي في أوروجواي، وذلك بحكم الطابع الديماغوجي للإعلان.

أعيد ترشيحه مرة أخرى للرئاسة في عام 1964 وغلب عليه المسيحي الديمقراطي /إدواردو فري مونتافا، الذي حظي بكل إمكانيات الطبقات المسيطرة، وتلقى – وفقا لوثائق تم رفع السرية عنها -  دعم السي آي إيه لحملته. وحاولت الإمبريالية أثناء حكومة إدواردو فري مونتالفان تطبيق ما سمي فيما بعد بـ "الثورة والحرية" كرد إيديولوجي على الثورة الكوبية. وما حصل هو أنه تم بذلك توليد أسس الدكتاتورية الفاشية. رغم ذلك حصل ألندي في تلك الانتخابات على تأييد أكثر من مليون ناخب.

في عام 1966 ترأس الوفد الذي شارك في مؤتمر القارات الثلاث الذي عقد في هافانا . وزار الاتحاد السوفيتي بمناسبة العيد الخمسين لثورة أكتوبر.وفي العام التالي أي 1968 زار كوريا الشمالية وفيتنام حيث تعرف على القائد العظيم لهذا البلد /هوتشي مينغ. وضمت رحلته أيضا كامبوديا ولاوس. كانت معنوياته الثورية حينها في أوجها.

بعد أن قُتل التشي جيفار، رافق شخصيا ثلاث كوبيين من مجموعة جيفارا الثورية في بوليفيا بقوا على قيد الحياة ودخلوا اراضي تشيلي، رافقهم إلى تايتي.

بتاريخ 22 يناير من عام 1970 رشحته جبهة الوحدة الشعبية وهي إئتلاف سياسي تشكل من الشيوعيين والاشتراكيين والجذريين، وجبهة (مابو)، وجبهة بادينا، ومنظمة العمل الشعبي المستقل. وهكذا انتصر في الانتخابات بتاريخ 4 سبتمبر. لا شك أنه مثيل نموذجي كلاسيكي للناضل الثوري بالطرق السلمية لإقامة الاشتراكية.

فور ذلك أخذت الحكومة الأمريكية تحت رئاسة نكسون بالعمل ضده. وراح قائد الجيش التشيلي، الجنرال رينيه شنايدر، ضحية لمحاولة اغتيال وقعت بتاريخ 22 أكتوبر وتوفى بعدها بثلاثة أيام لأنه لم يخضع للضغوطات الأمريكية المراد منها قيامه بانقلاب ضد ألندي. وهكذا باتب محاولة منع الجبهة الشعبية من الوصول إلى الحكم بالفشل.

بتاريخ 3 نوفمبر من عام 1970 تولى ألندي رئاسة بلاده بكل شرعية وكرامة مبتدئا بذلك معركة بطولية من أجل التغييرات ومجابهة الفاشية. كان عمره حينها 62 سنة. وكان لي الشرف بأن أشاطر معه صداقة دامت لأكثر من 14 سنة من النضال المناهض للإمبريالية منذ أن انتصرت الثورة الكوبية.

في الاتخابات البلدية التي جرت في شهر مارس 1971

نالت الجبهة الشعبية أغليبة الأصوات المطلقة (50.86 بامائة).  وبتاريخ 11 يوليو وقّع الرئيس ألندي على القانون حول تأميم النحاس التشيلي، وكان قد طرح تلك الفكرة على مجلس الشيوخ قبل 19 سنة. وجرت المصادقة على القانون بالإجماع. لم يتجرأ أحد على إبداء الرفض.

في عام 1972 استنكر في الجمعية العامة للأمم المتحدة العدوان الدولي على بلاده. ونال تصفيق الحضور أثناء عدد من الدقائق والحضور واقف. في هذه السنة نفسها زار الاتحاد السوفيتي والمكسيك وكولومبيا وكوبا.

في عام 1973، عند إجراء الانتخابات البرلمانية في شهر مارس، حصلت الوحدة الشعبية على 45 بالمائة من الأصوات، مما زاد تمثيلها في البرلمان.

لم تنجح المحاولات في مجلسي الكونغرس لإسقاط الرئيس.

شددت الإمبريالية واليمين عملياتهم ضد حكومة الوحدة العشبية، وساد الإرهاب في البلد.

كتبتُ ستة رسائل شخصية سرية بخط اليد الصغير جدا وبقلم ناعم ما بين عامي 1971 و1973 تناولت فيها مواضيع هامة بحذر واحترام كبيرين.

قلت له في إحداها بتاريخ 21 مايو 1971:

" نحن معجبون بجهودك العظيمة وطاقتك غير المحدودة من أجل تعزيز واستمرارية الانتصار.

" يمكننا من هنا أن نلاحظ ونحس بأن سلطة الجبهة العشبية تكسب مجالا أكبر رغم مهمتها الصعبة والمعقدة.

" شكلت انتخابات 4 أبريل انتصارا عظيما مثيرا للحماس.

"لقد كان دورك وعزيمتك وقدرتك الجسدية والعقلية  بالأمر الحاسم في أخذ العملية الثورية إلى الأمام.

لا شك أن أمامكم صعاب جسيمة ومتعددة خاصة أن ظروفكم غير مثالية، لكن ليس هناك شك من أن سياسة عادلة وحكيمة تعتمد على الجماهير وعلى التطبيق الرشيد لا يمكن لأحد قهرها على الإطلاق".

بتاريخ  11 سبتمبر كتبتُ له:

" هدف حامل هذه الرسالة أن يتناول معك تفاصيل الزيارة.

" في البداية وباعتبار إمكانية القيام برحلة مباشرة عبر الشركة الكوبية للطيران، رأينا من المفيد الهبوط في بلدة أريكا والابتداء بالجولة في الشمال. ظهر بعدها أمران جديدان: الموضوع الذي عبر عنه لك  الرئيس/ فلاسكو ألفارادو لالتقائه  بي في طريقي إلى هناك، وإمكانية استخدام طائرة روسية إيل 62 من التي لها استقلالية أكبر لتسهيل إمكانية الوصول إلى سانتياغو في رحلة مباشرة. 

"أرسل خطة للجولة والنشاطات لكي تضيف، تحذف او تُدخل التغييرات التي تراها مناسبة.

"حاولت ان افكر فقط فيما قد يكون له اهمية سياسية بدون ان أشغل بالي كثيرا بوتيرة العمل او كثافته، لكن كل شيء يخضع لآرائك وتقديراتك.

"لقد تمتعنا كثيرا بالنجاحات الاستثنائية التي حظيت بها رحلتك الى الاكوادور وكولومبيا والبيرو. متى ستتاح لكوبا فرصة التنافس مع الاكوادوريين والكولومبيين والبيروانيين فيما يتعلق بمودة وحفاوة استقبالهم لك؟"

في تلك الرحلة، التي ارسلت خطتها الى الرئيس أليندي، أنقذت حياتي بمعجزة. لقد قطعت مسافة عشرات الكيلومترات امام حشد كبير موجود على مدارالطريق.  اعدت وكالة المخابرات المركزية التابعة للولايات المتحدة ثلاث عمليات لضمان اغتيالي اثناء تلك الرحلة.  لقد واثناء لقاء صحفي معلن عنه سابقا كانت هناك كامرة وفرتها محطة تلفزيونية فنزويلية مزودة باسلحة اوتوماتيكية يشغّلها مرتزقة كوبيين دخلوا الى شيلي مستخدمين وثائق من ذلك البلد. وطوال اللقاء ورغم تصويبهم الكامرات الي خانتهم الشجاعة ولم يجرؤوا على ضغط الزناد، ما كانوا يريدون المجازفة بحياتهم. اضافة الى انهم كانوا قد تعقّبوا مساري في كل انحاء شيلي حيث لم تتسن لهم فرصة جديدة ليكونوا قريبين مني كثيرا وفي مرمى من نيرانهم. وفقط عرفت بتلك العملية الجبانة بعد انقضاء بضعة سنوات.ا لاستخبارات الاميركية راحت الى ابعد ما كان بوسعنا ان نتصوره.



وفي 4 شباط عام 1972 كتبت لسالفادور (أليندي):

"تم استقبال الوفد العسكري بعناية كبيرة من قبل الجميع هنا. كرست القوات المسلحة الثورية كل وقتها عمليا للاعتناء به. كانت اللقاءات ودية وانسانية، وكان البرنامج مكثفا ومتنوعا. انطباعي هو ان الرحلة كانت ايجابية ومفيدة، هناك امكانية للاستمرار بتطوير هذا التبادل وهو أمرمناسب.

"تحدثت مع أرييل عن فكرة رحلتك. أفهم تماما  ان العمل المكثف ونبرة المعركة السياسية في الاسابيع الاخيرة لم تسمح لك بالنظر في الموعد التقريبي الذي اشارنا اليه في تلك المناسبة. لاشك اننا لم نأخذ في الاعتبار هذه الاحتمالات. من جهتي، كنت في ذلك اليوم قبيل عودتي عندما كنا نتعشا في بيتك في ساعات الفحر، امام ضيق الوقت وتسارع الساعات كنت اشعر بالطمأنينة لفكرة اننا كنا سنلتقي قريبا في كوبا حيث كانت ستتاح لنا الفرصة لكي نتحدث مسهبا. رغم ذلك، آمل ان تتمكن بان تأخذ في الاعتبار اجراء الزيارة قبل أيار. وأذكر هذا الشهر لانه كحد اقصى في منتصفه يجب ان اقوم بالسفر الى الجزائر وغينيا وبلغاريا وبلدان أخرى والى الاتحاد السوفييتي، والذي أصبح لا يقبل التأجيل.

"أشكرك كثيرا على الانطباعات التي تبلغني عنها حول الوضع. ويوما بعد يوم رحنا نألف الوضع في شيلي واصبحنا كثر اهتمام وتأثربالمسيرة الشيلية ، ونتابع عن كثب كل ما يردنا من أخبار عن شيلي. الان نستطيع ان نفهم بشكل افضل ما أثارته الثورة الكوبية في الاوقات الاولى من حماس وانفعال.و يمكن القول اننا نعيش خبرتنا الخاصة بنا لكن بالعكس.

"استطيع ان الاحظ في رسالتك معنوياتك العالية ورباطة جأشك وشجاعتك لمواجهة الصعوبات وهذا شيء أساسي في اية مسيرة ثورية خاصة عندما تجري ضمن ظروف معقدة للغاية وصعبة كظروف شيلي. لقد عدت بانطباع استثنائي عن المستوى المعنوي والثقافي والانساني للشعب التشيلي وميله الوطني والثوري الواضحين.

لك الميزة الفريدة لان تكون قائده في هذه اللحظة الحازمة في تاريخ شيلي واميركا، تتويجا لحياة كاملة من النضال او كما قلت في الملعب، مكرسة لقضية الثورة والاشتراكية. ليس هناك من عائق لا يمكن التغلب عليه  قال أحد ما انه في اية ثورة  يتم السير الى الامام بجرأة وجرأة والمزيد من جرأة، وانا على قناعة عميقة بهذه المسلمة".



وكتبت من جديد الى الرئيس أليندي في 6 أيلول عام 1972:

"ارسلت لك مع بياتريز رسائل حول مواضيع مختلفة وبعد ان غادرت وبسبب الاخبار التي كانت تردنا  الاسبوع الماضي قررنا ان نبعث الرفيق اوسماني لكي يؤكد لك استعدادنا للتعاون في أي اتجاه ولكي تتمكن بدورك من ابلاغنا عبره عن رأيك حول الوضع وعن تصوراتك فيما يتعلق بالسفر المخطط الى هنا والى بلدان اخرى. وحجة سفر اوسماني ستكون القيام بزيارة تفقدية لسفارة كوبا ولكن بدون تغطية اعلامية ، نريد ان تكون اقامته هناك قصيرة ومتكتم عليها.

"النقاط المطروحة من قبلك عبر بياتريز يتم تنفيذها ....

"رغم اننا ندرك الصعوبات الحالية التي تواجهها المسيرة الشيلية نثق بانكم ستجدون الوسيلة المناسبة للتغلب عليها.

"تستطيع ان تعتمد اعتمادا كاملا على تعاوننا. لك تحية اخوية وثورية منا جميعا".

وفي 30 حزيران عام 1973 وجهنا دعوة رسمية للرئيس سالفادور اليندي والى احزاب الوحدة الشعبية لحضور الاحتفاء بحلول الذكرى الـ 20 للهجوم على ثكنة المونكادا.

وفي رسالة اخرى كتبت له:

"يا سالفادور:

"ما سبق هو الدعوة الرسمية، الشكلية، لحضور الاحتفاء بالذكرى الـ20. من الانسب ان تتمكن من ان تأتي الى كوبا في هذا التاريخ، يمكنك ان تتصور ما سيمثل هذا من بهجة وارتياح وشرف لدى الكوبيين. واعرف ان هذا يعتمد اكثر من أي شيء آخر على انشغالك  وعلى الوضع هناك. نتركه اذا الى تقديرك.

"إنّنا متأثرون لحد الآن بمناسبة انتصاركم في يوم 29 والدور الشخصي البارز الذي لَعِبتَه في الأحداث. ومن الطبيعي أن تستمر كثير من الصعوبات والعراقيل واردة ولكنّني على اليقين بأنّ هذه التجربة الناجحة الأولى ستشجعكم وستعزز ثقة الشعب بك. لقد تم نشر أخبار الأحداث بشكل موسع في الوسائل الإعلامية الدولية، أمر هذا الذي يعتبر انتصاراً عظيماً". 

"وسوف تنتصر الثورة التشيلية إن استطعتَ أن تتصرف كما عملتَه في يوم 29 مهما كانت التجربة قاسية وصعبة".

"أوكّد لك بأن لازال الكوبيون على جانبك ويمكنك الاعتماد على أصدقائك الأفياء الدائمين".



وفي التاسع والعشرين من شهر تموز/يوليو عام 1973 أرسلتُ له الرسالة الاخيرة.

عزيزي سلفادور:

بحجة التباحث معك في مسائل تتعلق باجتماع بلدان عدم الانحياز، يقوم كل من كارلوس وبينيرو بإجراء زيارة إلى هذه. الهدف الحقيقي من الزيارة هو الاستفسار منك عن الوضع والتعبير عن استعدادنا، كالعادة، للتعاون في وجه الصعوبات والمخاطر التي تعرقل العملية وتهددها. تواجدهما هناك سيكون قصيراً، حيث أنه تنتظرهما هنا واجبات كثيرة عالقة، وبالرغم مما تتطلبه زيارتهما من تضحية بعمليهما، قررنا أن يقوما بها.

أرى أنكم الآن في وضع حسّاس من الحوار مع الديمقراطية المسيحية في خضم أحداث خطيرة كالاغتيال الهمجي لمعاونك البحري والإضراب الجديد لأصحاب الشاحنات. لهذا السبب أتصور حالة التوتر القائمة ورغبتك في كسب الوقت وتحسين ميزان القوى تحسباً لإمكانية انفجار الصراع، وإذا أمكن، إيجاد سبيل يسمح بالسير قدماً في العملية الثورية بدون حرب أهلية، وبذات الوقت إنقاذ مسؤوليتك التاريخية عمّا يمكنه أن يحدث. إن هذه الغايات هي غايات محمودة. ولكن في حال أصر الطرف الآخر، الذي لسنا في ظروف فعلية تسمح لنا بتقييمه من هنا، على اتباع سياسة غادرة ولامسؤولة مطالباً بثمن يستحيل دفعه مقابل الوحدة الشعبية والثورة، وحتى أن هذا الاحتمال كبير جداً، لا تنسَ لثانية واحدة القوة الرائعة التي تتمتع بها الطبقة العاملة التشيلية والدعم الشديد الذي قدمته لك في كل اللحظات الصعبة؛ فهي تستطيع عند توجيهك للنداء أمام الخطر المحيق بالثورة، أن توقف الانقلابيين عند حدهم وأن تحافظ على تماسك المترددين وفرض شروطها وأن تحسم مصير تشيلي من جديد، إذا استلزم الأمر. يجب أن يعرف العدو بأنها متأهبة ومستعدّة للتحرك. يمكن لقوتها واندفاعها أن يميلا كفة الميزان في العاصمة لصالحك، حتى بوجود ظروف أخرى مناوئة. قرارك بالدفاع عن العملية بثبات وشرف حتى لو كلّفك حياتك، والجميع يعرفون بأنك صاحب كلمة ومستعد لتنفيذها، سيحشد إلى جانبك كل القوى القادرة على القتال وكل الرجال النساء الشرفاء في تشيلي. إن شجاعتك ورباطة جأشك وبسالتك في هذه الساعة التاريخية بالنسبة لوطنك، وبشكل خاص قيادتك الثابتة والمصمّمة والتي تمارسها ببطولة، تشكّل مفتاح صمّام أمان الوضع.

أخبِر كارلوس وبينيرو بماذا يمكننا أن نتعاون نحن أصدقاؤك الكوبيون الأوفياء. أجدد التعبير لك عن مودّة شعبنا وثقته اللامتناهية. ولقد كتبتُ هذه الكلمات شهر قبل الإنقلاب. والمبعوثان هما كارلوس رافايل رودريغيس ومانويل بينييرو.

لقد تحدث بينوشيت مع كارلوس رافايل. وأظهر له وفاء وثبات مشابهة لوفاء وثبات الجنرال كارلوس برات، قائد عام الجيش أثناء حكومة الوحدة الشعبية، وهو كان عسكرياً شريفاً جعلته الإمبريالية والبرجوازية يقع في أزمة شاملة التي أجبرته للاستقالة من منصبه، وفيما بعد تم اغتياله في الأرجنتين من قبل رجال جهاز المخابرات التشيلية (دينا) بعد الإنقلاب الفاشي في عام 1973.

أنا لم أثق في بينوشيت منذ أن قرأتُ كتاباً عن الجيولوجيا السياسية الذي قدّمه لي أثناء زيارتي لتشيلي. لقد كنتُ أتابع أسلوبه وتصريحاته والأساليب التي قام بتطبيقها كقائد الجيش أمام استفزازات اليمين التي كانت تجبر الرئيس أجيندي لإعلان حالة الطوارئ في سانتياغو دي تشيلي. وتذكرتُ بما حذره ماركس في 18 بروماريو.

لقد كان يرغب كثير من القادة العسكريين من الجيش في مختلف المناطق وفي مقرات أركان الجيش بالتحدث معي أينما كنتُ متواجداً ولقد أظهروا رغبة واهتمام ملموس بكثير من القضايا المتعلقة بحربنا التحريرية من أجل الاستقلال وتجاربنا في أزمة الصوارخ التي افتعلت في شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1962. وكانت تطاول الاجتماعات عدة ساعات في منتصف الليل وهو وقت الفراغ الوحيد الذي كنتُ قد وجدتُه لحضور هذه اللقاءات، وأنا كنتُ أوافق على ذلك من أجل مساعدة أجيندي لتفسير لهم بأنّه ليست الاشتراكية عدو المؤسسات المسلحة وبينوشيت كقائد عسكري لم يكن الاستثناء. وكان يعتبر أجيندي هذه اللقاءات مفيدة.

واستشهد أجيندي في الحادي عشر من شهر أيلول/سبتمبر عام 1973 مدافعاً عن قصر "لامونيدا" (قصر العملة). لقد قاتل أجيندي كالأسود لحد لحظته الأخيرة.

وحكى الثوريون الذين قاتلوا أمام الهجمة القاشية عن لحظاته الأخيرة أشياء عظيمة عن أجيندي. وكانت هناك تضارب بالمعلومات لأنهم كانوا يقاتلون في مختلف المواقع من داخل القصر، إضافة إلى ذلك قُتِلَ بعض من أقرب متعاونيه أو تم قتلهم بعد انتهاء المعركة القاسية وغير المتساوية.

والفرق في الشواهد هو بأنّ كان يؤكّد بعض الشهود أنّ قام أجيندي بقتل نفسه (انتحر) من أجل أن لا يقع في يد أعدائه وكان يشهد البعض الآخر أنه قُتِلَ بطلقات نارية تم أطلاقها له من قبل أعدائه.

لقد اشتعل القصر بسبب ضربات الدبابات والطائرات الحربية، وذلك لإنهاء إنقلاب كانوا يعتبرون تنفيذه سريعاً وبلا مقاومة. وليس أي تناقض في قضية تنفيذ الواجبات المترتبة على أجيندي. لقد كانت عدة أمثلة أثناء حروبنا التحريرية من أجل الاستقلال من مقاتلين شرفاء الذين قتلوا أنفسهم عندما لم يكن الدفاع ممكناً وهم انتحروا بدلاً من أن يكونوا أسرى.

يمكننا التحدث بشكل مطاول عن الأشياء التي كنّا مستعدون القيام بها من أجل أجيندي ولقد كُتِبَ بعض الأشياء حول ذلك ولكنّني لا أحاول فعل ذلك عبر هذه الكلمات.

نحتفل اليوم بالذكرى المئوية لميلاده. وسيظل أجيندي مثالاً للأبد.

فيدل كاسترو روز

62 حزيران/يونيو 2008

 الساعة: 6:34 عصراً

تاريخ: 

26/06/2008